جون مورلو Jean Morlot معمر عين الرڭادة
ولد جون مورلو ب "فيلمونته"Villemontais في 18 ابريل 1896 من عائلة فلاحية عريقة، جدوده لابيه من "فيلمونته" وجدوده لامه من "شرييه" Cherier . تابع دراسته بالمدرسة العمومية ل "فوبور ميلسان"Faubourg Mulsant ، ثم بثانوية روان، ترك لدى الجميع صدى طيبا كتلميذ متميز، يحتل الصفوف الاولى، مستقيما ومنضبطا، له صداقات طيبة، الشيء الذي جعل كل من عرفه، وهم كثر في روان خصوصا في فوبور ميلسان، يكنون له المحبة القلبية الخالصة.
دخل المدرسة الوطنية للفلاحة ب " ڭرنيون" Grignonوتخرج منها سنة 1914 محتلا الصف الاول في دفعته. التحق بالجيش الفرنسي جنديا من الدرجة الثانية في ماي 1915، وعاد سنة 1918 برتبة يوتنان في القناصة المشاة، وبثماني شهادات اعتراف وبإصابتين: الاولى بالساعد الايسر نتيجة انفجار قنبلة بتاريخ 21 فبراير 1918، والثانية انكسار في الكتف بواسطة راصاصة بتاريخ 19 فبراير 1918. وكان يظهر كتفه عدة مرات وهي مثقوبتان بالرصاص لعمال ضيعته بالرڭادة، وكان يفتخر بذلك في كل مناسبة يجالس فيها المغاربة العاملين في ضيعته، ويتحدث باعتزاز عن مشاركته في الحرب، ويصف لهم الاعمال التي قام بها ضد العدو.
ترك في الجبهة ذكريات حية في اوساط كل من تعامل معهم، سواء زملاؤه في الخنادق، او رؤساؤه.
قادر على دفع الرجال الى الهجوم بطريقة تثير الاعجاب، قادر على الاستمرار في تنفيذ المهام الصعبة تحت القصف الجهنمي بكل هدوء، وبدم بارد. قادر كذلك على الذهاب وسط المعارك غير مبال بالموت بحثا عن جندي مجروح ليحمله الى خطوطنا. كل من تعامل معهم يتحدثون عنه دائما بحب، وباعتزاز مرفوق بالاعجاب.
ذهب الى المغرب سنة 1919 عرف هناك قساوة حياة الرواد الاوائل (ممهدي الطريق للاستعمار) في بلد هو في حاجة الى عمل كل شيء، عمل بكل ما يملك، وعمل على إحياء واستصلاح المساحات الواسعة، ومنذ ان تمكن من ذلك، وبفضل ميله الفطري للاستقلال والحرية، اشتغل لحسابه، هو ابن فلاح اظهر نشاطا واسعا في ميدان التعاونيات والنقابات الفلاحية.
منذ سنة 1921 اسندت اليه رئاسة نقابة فلاحة ابركان، وفي سنة 1924 أنشأ تعاونية القطن لتريفة، التي تعتبر التعاونية الاولى التي أسست على التراب المغربي.
في سنة 1928 انتخب بالغرفة التجارية والفلاحية المختلطة لمدينة وجدة، وفي سنة 1932 انتخب بالغرفة الفلاحية المحدثة بالمغرب الشرقي.
وفي سنة 1934 ترقى الى رئاسة اتحاد المتعاونين الفلاحيين الذي ينضوي تحته جميع المتعاونين المغاربة. تقلد عدة مهام بين حين وآخر، كان مديرا لصندوق القرض الفلاحي، وكان مديرا وواحدا من المؤسسين ل " مخازن دوكس" ب "مارتمبري دو كيس " مدينة أحفير حاليا.
هدم القصبة الاسماعيلية وبناء ضيعة مورلو بها.
عمل "مورلو" في بداية دخوله عين الرڭادة سنة 1919 الى جانب المعمر "تبنو" ، واستقل بنفسه في عمله، بعدما اضاف اليها ما اضاف من الاراضي المنتزعة من اصحابها كالاراضي الواقعة مباشرة شرق سور القصبة والتي كانت في ملك "إذرعوين" وتقدر بهكتارات كثيرة. وفكر بعد سنوات في بناء مسكنه داخل القصبة، بعدما كان يقيم في ابركان، واختيرت الزاوية الشمالية الشرقية من القصبة لبناء المسكن. عمد مورلو الى هدم اسوار القصبة ليوسع ضيعته، وكان بداخل القصبة مساكن قديمة، تعمر كلما كتب الاعمار للقصبة، من طرف عساكر السلطان، او قواد المنطقة، كما كان الشأن بالنسبة لمنصور بن عثمان في القرن 18، والقائد المختار الڭروج سنة 1885م، بعدما اخرج منها احمد بن عمرو، كما سكنها الامير عبد القادر الجزائري سنة 1947 لشهور عدة قبل ان يسلم نفسه لفرنسا.
وظفت سواعد ابناء المنطقة لهدم الاسوار والمساكن بداية من منتصف العقد الثالث من القرن 20، وما تلاه. يقول الاستاذ عبد الله الزغلي: حدثني أفقير محند و علي وشريف وهو من اهل خلاد من مواليد اواخر القرن 19: " كنا نعمل عند مورلو، ونهدم البيوت الموجودة داخل القصبة، وبها "زليج" كثير، مختلف الاشكال والالون، كنا نحطه على الارض، ونحول تصفيفه، وضمه الى بعضه البعض، فلا يستقيم لنا ذلك، نظرا لوجود اسنان به مختلفة الاشكال ، وكان مورلو يجمع العديد منه، ويحمله الى فرنسا، كما حمل قطعا تشبه النقود عثرنا عليهم أثناء الهدم".
إستمر الهدم لمدة طويلة، وقد تركز في البداية على الغرف الموجودة بداخل القصبة، قبل الانتقال الى الاسوار الخارجية، بعدما ان بنى مورلو منزله، الذي نقل اليه كميات كبيرة من اتربة البناء الداخلي المهدم، واسس به قاعدة له، حيث ارتفع عن سطح الارض بحوالي 20 سنتم، على شكل مربع تتراوح اضلاعه بين عشرين، وثلاثين مترا، حتى تبقى الدار في منأى عن اي فيضان.
سمح مورلو لبعض عماله ــ وهم قلة ــ بالاقامة داخل اسوار القصبة، حيث اقاموا " ڭرابة " (تعني الاكواخ) داخل السور الجنوبي والغربي للقصبة.
تابع مورلو هدم الاسوار الاخرى للقصبة، مرحلة بعد مرحلة من اجل توسيع الضيعة وتحسين مظهرها، وإضافة مرافق اخرى، ويحكي السيد افقير احمد الزاوية النڭاوي الذي اشتغل عند المعمر مورلو في هدم اسوار القصبة قائلا: " كنا نهدم السور بالفؤوس، ومورلو يأمرنا بتجميع الاتربة على جنبات القصبة، وقد امضينا زمنا طويلا، ولم نهدم سوى جزء صغير منه".
عندما فيما بعد في حفر مطامير لتخزين الحبوب، استغل حفرة كبيرة تقع الى الغرب من سكناه، كانت مقلعا لللاتربة التي استعملت في بناء اجزاء من القصبة.
كلف مورلو عمالة بتنقية الحفرة من الردم الواقع بها، وكان العمال يعثرون على جماجم وعظام ادمية كانوا يجمعونها في كيس ويذهبون لدفنها في "سيدي بوصبر" بطلب من مورلو. لا شك ان الحفرة قد استخدمت سجنا او مقبرة جماعية للخارجين عن طاعة حكام القصبة في فترات تاريخية سابقة.
كانت قبائل خلاد وطغاغط المالكة للاراضي المحيطة بعين الرڭادة تستفيد من مياه العين في سقي بعض اراضيها الواقعة شمال العين، على شكل قطع صغيرة موزعة بين الاسر وفق التقسيم المتعارف عليه والمتوارث منذالقديم. عندما استقر المعمرون من بينهم مورلو بالمنطقة حولت مياه العين الى سقي اراضيهم وبساتينهم، عاش الاهالي صراعات مريرة مع مورلو واخرون حول مياه العين ووقعت اصطدامات عنيفة مع القوات الفرنسية التي كان مورلو يستدعيها كلما منع الاهالي المعمرين من اخذ الماء. استسلم الاهالي لتقسيم المعمرين لمياه العين، هم يستفيدون من مياه العين لمدة خمسة أيام في الاسبوع بينما الاهالي يومان فقط.
تزوج مورلو بعين الرڭادة حوالي سنة 1929م من "انطوانيت" ابنة المعمر "جانفيل" صاحب املاك وضيعات بمدينة ابركان وضواحيها، وأقام عرسا على الطريقة المحلية، حيث استدعى بعض النساء الكبيرات في السن فهيأن الطعام اي الكسكس، وحضر العرس سكان عين الرڭادة، واحضر " العرفة " الذين احيوا ليلتهم حتى الصباح. كافح مورلو في البداية من اجل بناء ضيعته وتوسيعها، إذ كان يشتغل الى جانب العمال في جمع الحصى واقتلاع السدر، ويمسك " سكة العجول " لحرث الارض، ويشارك في عملية الحصاد، يتفقد ارضه بالليل والنهار، ويحرص على انجاز كل عمل في وقته، وكان صارما مع العمال الذين كانوا يتقاضون مبالغ زهيدة جدا.
كانت زوجته تساعده في جل اعماله، تراقب العمال وتتفقد العمل، تحاسب على كل صغيرة وكبيرة، كانت صعبة المراس، يخافها العمال ويكرهونها، تعاقبهم وتطردهم. كانت تتقاضى من النساء البيض والدجاج والارانب والسمن مقابل الرعي في الارض، او التقاط السنابل منها ايام الحصاد.
كان مورلو بدوره يتقاضى من الاهالي اقدارا من الحليب مقابل الرعي في ارضه لفترة محددة، وتقوم زوجته بصنع الجبن ليلا يحمله مورلو في الصباح الباكر في صندوق على دراجته الهوائية ليبيعه لدكاكين المعمرين بابركان.
كان مورلو يوجب ذعائر على الاهالي، يحددها ويحدد قيمتها، كلما داست مواشيهم او دوابهم ارضه، او اكلت من زرعه. كان يحبس قطعان الماشية والدواب في ضيعته، يستغلها حسب نوعية وضيفتها، ولا تحرر إلا بعد دفع الذعيرة التي يقررها ويختارها. كانت الذعيرة تعجيزية لتنتهي الى تحديد ايام عمل يشتغلونها بالمجان قبل استرجاع مواشيهم ودوابهم. حجز مورلو يوما حمار احد ابناء دواره لانه دخل الى ارضه، فجاء يطلبه، فامره ان يدفع غرامة مقابل ذلك، فشكاه فقره وحاجته، وكان الوقت صباحا، فحكم عليه بالعمل طيلة ذلك اليوم في تنقية الارض من الحجارة، ونقلها على حماره إلى وادي بورولو مقابل استرجاعه.
توسعت ضيعة مورلو وضمت اراضي شاسعة جديدة اضيفت الى سابقاتها. ركز مورلو في البداية على غرس اشجار اللوز والتين والزيتون والرمان، ثم تلاها غرس الكروم والحوامض على اختلاف انواعها عبر مراحل. كانت اشجار البرتقال تسقى بماء العين ايام جريانها، وعندما تجف يتم نقل الماء على الدواب من بئر جراوة بواسطة العمال ليلا ونهارا خاصة في فصل الصيف.
حفر مورلو بئرا خاصة بغرب ضيعته فيما بعد، فاصبح يستعين بها في سقي مغروساته، بعدما زودها بمضخة افادته كثيرا. شرع مورلو في غرس حقول الكروم بالتدريج، مع منتصف ثلاثينيات القرن العشرين، وغرس ايضا مساحة مهمة من اشجار اللوز الى الشرق من ضيعته، يمين الطريق المؤدية الى السعيدية.
اعتمد مورلو في بناء مرافق كالاصطبلات للدواب والابقار، والخنازير والمواشي، ومستودعات ومواقف لآليات العمل على بنائين اسبان وبرتغاليين، وخصص اجور يومية للكبار ( حوالي 1935 كان اجر الكبار 6 فرنكات) واخرى للصغار (اجر الصغار 3 فرنكات)، يصفي حسابها مع نهاية كل سنة، وغالبا ما كان الحساب ينتهي لصالحه، حيث يبقى العامل مدينا له.
كانت معاملة مورلو للعمال تتسم بالصرامة والقساوة، ويزرع الخوف في نفوسهم، وكان ايضا يضرب العامل اذا لاحظ عدم الاتقان لعمله، وكان كثير الزمجرة والصراخ في وجه العمال، وكثير التوعد بالعقاب وخصم اجر العمل، وفرض الغرامات والطرد.
بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، استدعي مورلو للعمل في الجيش سنة 1939م، باعتباره ضابطا شارك في الحرب العالمية الاولى، انتقل الى فرنسا، وتوقف العمل بضيعته، خلال مدد متقطعة.
استطاع ان يفلت من المشاركة في بعض المعارك نظرا لظروف صحية، حكت ابنته عن هذه الظروف الصحية فقالت ان والدها كان يتحايل على القيادة العسكرية عندما تسدعيه للالتحاق بالجبهة، اذ كان يشرب مواد كيماوية تؤثر على صحته ولون وجهه، فيعود الى عين الرڭادة، لانه كان يكره الحرب، منذ ان ذاق مرارتها في الحرب العالمية الاولى.
قل العمل في هذه الفترة واوقف مورلو جل اعماله بمعداته الفلاحية نظرا لانعدام البنزين وقطع الغيار، وعاد لاستعمال الدواب والعجول في حرث الارض وسقي الماء، ونقل المحاصيل الزراعية وتخزينها، وهي قليلة، وطرد جميع العمال حتى ان بعضهم تعاطوا للترابندو او التهريب.
كان مورلو معروفا بعدائه المتطرف للحركة الوطنية، فقد كان يراقب المجاهد الفقيه السيد عمرو بن الحسين الوكوتي حينما سلم له دكان ليشتغل بالتجارة، وكان هذا الدكان في ملك مورلو وقريبا من منزله وضيعته، فتسهل عليه مراقبته.
تجاوب المواطنون مع بعض الاحداث التي كانت تقع في العالم العربي والاسلامي، واستجابوا للدعوات الموجهة من اجل الاضراب، او مقاطعة بعض البضائع الفرنسية لتحسيس المعمر بان الجيل الجديد اصبح يدرك جيدا دوره في الدفاع عن الوطن.
تمت الدعوة الى اضراب شامل في ابركان وضواحيها، وصوم يوم واحد احتجاجا على استمرار هذه الحماية. يتذكر الناس جيدا عي عين الرڭادة كيف احيوا هذه الذكرى الاليمة، وكيف كانت نسبة الصيام مرتفعة، واتحاد الناس فيما بينهم قويا، وما تلا ذلك من مقاطعة البضائع الفرنسية. لقد ثار مورلو واغتاظ حين عثر على بعض المنشورات الداعية الاضراب والصيام، فأخذ يزمنجر كالرعد، وكان يردد امام بعض عماله: " شكون الصَّالو اللي إدير هذا.. غادي نَدِّي كُلْشِّي للحبس ". عبارة كان مورلو يرددها دائما استصغارا للمواطنين وتنقيصا من كرامتهم، وتعني بالفصحى : " من القذر الذي فعل هذا سأسوق الكل الى السجن ".
كان المعمر مورلو ضابطا في الجيش الفرنسي، وكان يكره الوطنيين ويمقتهم، وكانت ضيعته بمثابة ثكنة عسكرية لمراقبة المنطقة. منذ بداية الخمسينات، اخذت الادارة الفرنسية تقوي من سلطته ونفوذه، فزودته بكتائب عسكرية، اقامت في ضيعته وتضاعفت ابتداء من سنة 1953م، حيث امدته بجيش مسلح باحدث الاسلحة، وبالدبابات والسيارات المصفحة.
كانت الحراسة تقام بكيفية منظمة ودقيقة على الجهات الاربع لضيعته، حيث احيطت بخنادق للمراقبة، يتناوب الحراس عليها ليلا ونهارا، مع موجود حارسين دائمين على بابي الضيعة.
كانت الحراسة دائمة فوق سطح خزان الماء، الموجود الى غرب الضيعة، حيث يسمح علوه بمراقبة كل جهات الضيعة، وكذا مايجري بعين الرڭادة. كان الناس يخشون بطش مورلو وجبروته، يتحاشون رؤيته او ملاقاته، لا يتجرأ احد على الاقتراب بضيعته، او دخول ارضه. كانت له سلطة معاقبة الجميع، دون الرجوع الى السلطة الادارية بابركان، يحبس من شاء في ضيعته، يكتب حكمه على ورقة، ويبعث بالمواطن الى ابركان، فينفذ الحكم فيه دون محاكمة، يجمع مواشي الاهالي ودوابهم، ويحبسها في ضيعته، ولا يمكن اخذها الا بعد دفع الغرامة التي يحددها حسب رغبته، يراقب محمولات الاهالي، اذا شك فيها وهي مخترقة عين الرڭادة .
حاول فدائيو عين الرڭادة الانتقام من مورلو ومن معاونيه، الا انهم لم يتمكنوا، واتجهوا إلى الانتقام من بعض ممتلكاته، وهكذا تم إحراق اكوام التبن التي كان موضوعة إلى الشرق من مسكنه. أدى سكان عين الرڭادة ثمن هذا الاحراق غاليا، إذ بمجرد وقوعه حرك مورلو عساكر ضيعته، واتصل بالادارة الفرنسية بابركان التي نفرت لجمع الناس، ومداهمة مساكنهم، فوضعت حواجز على الطرقات، واقتحمت المنازل بالليل والنهار، وجمعت جل رجال المنطقة، حتى الشيوخ والعجائز، فساقت الجميع الى سجن ابركان وعذبوا عذابا همجيا. لم تتهيأ الضروف لقتل مورلو لانه لم يوفر الفرصة لاي احد الاختلاء به.
كان الجيش الفرنسي المرابط بضيعة مورلو، يخرج بامر منه الى العين وسواقيها ايام جريانها، ويمنع النساء من غسل اغراضهن، بدعوى تلويث المياه التي تذهب لسقي حقول مورلو.
كان مورلو يخرج بنفسه صحبة عسكره الى النسوة اللواتي يغسلن ثيابهن ومتاعهن بسواقي عين الرڭادة، فيجمعها، ويلقيها ارضا، ويرفسها برجليه، ثم يرميها وسط الاتربة والاوساخ الموجودة على حافات السواقي، وكانت النسوة يرتعدن كلما ابصرنه قادما الى العين، او سمعن هدير صوته.
كان مورلو يسجن من شاء، ويطلق سراح من شاء، وكان صاحب سلطة قوية، حتى على المسؤولين بمدينة ابركان، وكان يرصل مباشرة بالسلطات الفرنسية العليا بوجدة او الرباط، وهو الذي كان يردد كلما اغضبه مسؤول فرنسي او قائد مغربي: " نمشي للرباط نڭلعو ابحال واحد الراس اديال زلميط " وتعني: " اذهب الى الرباط، وازيله من منصبه ، كما ازيل رأس عود الثقاب ".
كان مورلو في فصل الصيف يسكن داره بالسعيدية، ويزور ضيعته بالرڭادة ليلا بين الحين والاخر، تربص به الفدائيون مرات عديدة، على الطريق الرابطة بين الرڭادة والسعيدية الا انهم لم يظفروا به.
غيرت عمليات الفدائيين حياة المعمرين بعين الرڭادة ونواحيها، كما هو شأن كل معمري مدينة ابركان، وسهل تريفة خصوصا بعد نفي محمد الخامس رحمه الله.
لم يسلم مورلو بعين الرڭادة من هذا الهلع والذعر، رغم تحصين ضيعته بكتائب الجيش الفرنسي المدجج بالاسلحة، والآليات الحربية، فقد كان في هذه الفترة يفر للمبيت بالسعيدية، او عند صهره "جانفيل" بمدينة ابركان، وزاد من تحصين مسكنه بعين الرڭادة، حيث اضاف ابوابا ونوافذ حديدية لكل الابواب والنوافذ الخشبية والزجاجية الاصلية، كما بنى بيتا فوق سطح منزله، وبالضبط فوق غرفة نومه، وصلهما بسلم خشبي ــــ هذا السلم الخشبي بقي بمسكن مورلو حتى ازاحه مدير "سوجيطا" حوالي 1974 عندما سكن بالضيعة ـــــ ضخم، بعدما احدث ثقبا في السطح، كي يتسلقه اذا ما دوهم المسكن من طرف الفدائيين.
وضعت للبيت العلوي نافذتان، جهة الشرق وجهة الشمال، وبابا جهة الغرب، جميعها من الحديد، فاصبح بامكانه ان يراقب جميع جهات مسكنه من اعلى السطح.
كان الاحتفال بالاستقلال اواخر 1955م عظيما ورائعا بعين الرڭادة، تجانس مع النيات المخلصة للوطنيين والناس اجمعين، ومع آمالهم في الانعتاق من العبودية والتعذيب، والامل في غد افضل، يحكم فيه المغربي ارضه، ويحن على اخيه، ويدافع عن حقه.
احس مورلو بخيبة الامل ويبدأ في التحرك في ضيعته امام عماله المغاربة ذهابا وايابا، يتحدث بمفرده، يضرب بين الحين والاخر الارض بقدمه وهو يردد: " أنبيع كلشي أُنمشي ... سي فيني...سي فيني" وتعني: " ابيع كل شيء واعود الى فرنسا.. انتهى كل شيء...انتهى كل شيء".
مع ستينيات القرن العشرين غير مورلو من سلوكاته العدائية، واصبح يتعامل مع العمال بكثير من الليونة، فقد كان يقدم بعض المساعدات للعمال زمن الشدة، ويتكلف بمداواة بعضهم، كما اصبح يمتع عماله بعطلة صيفية تمتد لخمسة عشر يوما، يقضونها بشاطئ السعيدية على نفقته.
كان يقيم كل سنة حفلا للعمال داخل الضيعة يسميه حفل "المشوي" يجالس فيه العمال، يحدثهم في التاريخ والسياسة، والحرب التي خاصها ضد الالمان، يجمع العمال صباح الفاتح من يناير ويقدم لهم الحلوى والهدايا، خصص لمدة طويلة قطعة ارض للعمال، يحرثها ويحصدها، ويوزع عليهم محصولها.
اصبح يشفق كثيرا على عماله المسنين، ويوصي بالعناية بهم وعدم ارهاقهم بالعمل.
تأسست قرية عين الرڭادة حوالي اوخر سيتينيات القرن العشرين. حددت السلطات القطع الارضية التي ستقام عليها القرية، فاختارت قطعة من اراضي المعمر مورلو، مساحتها ستة هكتارات، كانت مغروسة باشجار اللوز الى بداية ستينيات القرن العشرين. هذه القطعة الارضية تدخل ضمن الاراضي التي احتفظت بها " كلودين " ابنة المعمر مورلو، عندما باعت اجزاء مهمة من اراضي والدها، فقد تكلفت بذلك خصوصا عندما اشتد به المرض، ابتداء من سنة 1967م، حيث كان كثير التردد على فرنسا للتداوي، وسيموت بها حوالي سنة 1969م.
عن كتاب " عين الرڭادة القصبة والتأسيس " لمؤلفه الاستاذ عبد الله الزغلي
دخل المدرسة الوطنية للفلاحة ب " ڭرنيون" Grignonوتخرج منها سنة 1914 محتلا الصف الاول في دفعته. التحق بالجيش الفرنسي جنديا من الدرجة الثانية في ماي 1915، وعاد سنة 1918 برتبة يوتنان في القناصة المشاة، وبثماني شهادات اعتراف وبإصابتين: الاولى بالساعد الايسر نتيجة انفجار قنبلة بتاريخ 21 فبراير 1918، والثانية انكسار في الكتف بواسطة راصاصة بتاريخ 19 فبراير 1918. وكان يظهر كتفه عدة مرات وهي مثقوبتان بالرصاص لعمال ضيعته بالرڭادة، وكان يفتخر بذلك في كل مناسبة يجالس فيها المغاربة العاملين في ضيعته، ويتحدث باعتزاز عن مشاركته في الحرب، ويصف لهم الاعمال التي قام بها ضد العدو.
ترك في الجبهة ذكريات حية في اوساط كل من تعامل معهم، سواء زملاؤه في الخنادق، او رؤساؤه.
قادر على دفع الرجال الى الهجوم بطريقة تثير الاعجاب، قادر على الاستمرار في تنفيذ المهام الصعبة تحت القصف الجهنمي بكل هدوء، وبدم بارد. قادر كذلك على الذهاب وسط المعارك غير مبال بالموت بحثا عن جندي مجروح ليحمله الى خطوطنا. كل من تعامل معهم يتحدثون عنه دائما بحب، وباعتزاز مرفوق بالاعجاب.
ذهب الى المغرب سنة 1919 عرف هناك قساوة حياة الرواد الاوائل (ممهدي الطريق للاستعمار) في بلد هو في حاجة الى عمل كل شيء، عمل بكل ما يملك، وعمل على إحياء واستصلاح المساحات الواسعة، ومنذ ان تمكن من ذلك، وبفضل ميله الفطري للاستقلال والحرية، اشتغل لحسابه، هو ابن فلاح اظهر نشاطا واسعا في ميدان التعاونيات والنقابات الفلاحية.
منذ سنة 1921 اسندت اليه رئاسة نقابة فلاحة ابركان، وفي سنة 1924 أنشأ تعاونية القطن لتريفة، التي تعتبر التعاونية الاولى التي أسست على التراب المغربي.
في سنة 1928 انتخب بالغرفة التجارية والفلاحية المختلطة لمدينة وجدة، وفي سنة 1932 انتخب بالغرفة الفلاحية المحدثة بالمغرب الشرقي.
وفي سنة 1934 ترقى الى رئاسة اتحاد المتعاونين الفلاحيين الذي ينضوي تحته جميع المتعاونين المغاربة. تقلد عدة مهام بين حين وآخر، كان مديرا لصندوق القرض الفلاحي، وكان مديرا وواحدا من المؤسسين ل " مخازن دوكس" ب "مارتمبري دو كيس " مدينة أحفير حاليا.
هدم القصبة الاسماعيلية وبناء ضيعة مورلو بها.
عمل "مورلو" في بداية دخوله عين الرڭادة سنة 1919 الى جانب المعمر "تبنو" ، واستقل بنفسه في عمله، بعدما اضاف اليها ما اضاف من الاراضي المنتزعة من اصحابها كالاراضي الواقعة مباشرة شرق سور القصبة والتي كانت في ملك "إذرعوين" وتقدر بهكتارات كثيرة. وفكر بعد سنوات في بناء مسكنه داخل القصبة، بعدما كان يقيم في ابركان، واختيرت الزاوية الشمالية الشرقية من القصبة لبناء المسكن. عمد مورلو الى هدم اسوار القصبة ليوسع ضيعته، وكان بداخل القصبة مساكن قديمة، تعمر كلما كتب الاعمار للقصبة، من طرف عساكر السلطان، او قواد المنطقة، كما كان الشأن بالنسبة لمنصور بن عثمان في القرن 18، والقائد المختار الڭروج سنة 1885م، بعدما اخرج منها احمد بن عمرو، كما سكنها الامير عبد القادر الجزائري سنة 1947 لشهور عدة قبل ان يسلم نفسه لفرنسا.
وظفت سواعد ابناء المنطقة لهدم الاسوار والمساكن بداية من منتصف العقد الثالث من القرن 20، وما تلاه. يقول الاستاذ عبد الله الزغلي: حدثني أفقير محند و علي وشريف وهو من اهل خلاد من مواليد اواخر القرن 19: " كنا نعمل عند مورلو، ونهدم البيوت الموجودة داخل القصبة، وبها "زليج" كثير، مختلف الاشكال والالون، كنا نحطه على الارض، ونحول تصفيفه، وضمه الى بعضه البعض، فلا يستقيم لنا ذلك، نظرا لوجود اسنان به مختلفة الاشكال ، وكان مورلو يجمع العديد منه، ويحمله الى فرنسا، كما حمل قطعا تشبه النقود عثرنا عليهم أثناء الهدم".
إستمر الهدم لمدة طويلة، وقد تركز في البداية على الغرف الموجودة بداخل القصبة، قبل الانتقال الى الاسوار الخارجية، بعدما ان بنى مورلو منزله، الذي نقل اليه كميات كبيرة من اتربة البناء الداخلي المهدم، واسس به قاعدة له، حيث ارتفع عن سطح الارض بحوالي 20 سنتم، على شكل مربع تتراوح اضلاعه بين عشرين، وثلاثين مترا، حتى تبقى الدار في منأى عن اي فيضان.
سمح مورلو لبعض عماله ــ وهم قلة ــ بالاقامة داخل اسوار القصبة، حيث اقاموا " ڭرابة " (تعني الاكواخ) داخل السور الجنوبي والغربي للقصبة.
تابع مورلو هدم الاسوار الاخرى للقصبة، مرحلة بعد مرحلة من اجل توسيع الضيعة وتحسين مظهرها، وإضافة مرافق اخرى، ويحكي السيد افقير احمد الزاوية النڭاوي الذي اشتغل عند المعمر مورلو في هدم اسوار القصبة قائلا: " كنا نهدم السور بالفؤوس، ومورلو يأمرنا بتجميع الاتربة على جنبات القصبة، وقد امضينا زمنا طويلا، ولم نهدم سوى جزء صغير منه".
عندما فيما بعد في حفر مطامير لتخزين الحبوب، استغل حفرة كبيرة تقع الى الغرب من سكناه، كانت مقلعا لللاتربة التي استعملت في بناء اجزاء من القصبة.
كلف مورلو عمالة بتنقية الحفرة من الردم الواقع بها، وكان العمال يعثرون على جماجم وعظام ادمية كانوا يجمعونها في كيس ويذهبون لدفنها في "سيدي بوصبر" بطلب من مورلو. لا شك ان الحفرة قد استخدمت سجنا او مقبرة جماعية للخارجين عن طاعة حكام القصبة في فترات تاريخية سابقة.
كانت قبائل خلاد وطغاغط المالكة للاراضي المحيطة بعين الرڭادة تستفيد من مياه العين في سقي بعض اراضيها الواقعة شمال العين، على شكل قطع صغيرة موزعة بين الاسر وفق التقسيم المتعارف عليه والمتوارث منذالقديم. عندما استقر المعمرون من بينهم مورلو بالمنطقة حولت مياه العين الى سقي اراضيهم وبساتينهم، عاش الاهالي صراعات مريرة مع مورلو واخرون حول مياه العين ووقعت اصطدامات عنيفة مع القوات الفرنسية التي كان مورلو يستدعيها كلما منع الاهالي المعمرين من اخذ الماء. استسلم الاهالي لتقسيم المعمرين لمياه العين، هم يستفيدون من مياه العين لمدة خمسة أيام في الاسبوع بينما الاهالي يومان فقط.
تزوج مورلو بعين الرڭادة حوالي سنة 1929م من "انطوانيت" ابنة المعمر "جانفيل" صاحب املاك وضيعات بمدينة ابركان وضواحيها، وأقام عرسا على الطريقة المحلية، حيث استدعى بعض النساء الكبيرات في السن فهيأن الطعام اي الكسكس، وحضر العرس سكان عين الرڭادة، واحضر " العرفة " الذين احيوا ليلتهم حتى الصباح. كافح مورلو في البداية من اجل بناء ضيعته وتوسيعها، إذ كان يشتغل الى جانب العمال في جمع الحصى واقتلاع السدر، ويمسك " سكة العجول " لحرث الارض، ويشارك في عملية الحصاد، يتفقد ارضه بالليل والنهار، ويحرص على انجاز كل عمل في وقته، وكان صارما مع العمال الذين كانوا يتقاضون مبالغ زهيدة جدا.
كانت زوجته تساعده في جل اعماله، تراقب العمال وتتفقد العمل، تحاسب على كل صغيرة وكبيرة، كانت صعبة المراس، يخافها العمال ويكرهونها، تعاقبهم وتطردهم. كانت تتقاضى من النساء البيض والدجاج والارانب والسمن مقابل الرعي في الارض، او التقاط السنابل منها ايام الحصاد.
كان مورلو بدوره يتقاضى من الاهالي اقدارا من الحليب مقابل الرعي في ارضه لفترة محددة، وتقوم زوجته بصنع الجبن ليلا يحمله مورلو في الصباح الباكر في صندوق على دراجته الهوائية ليبيعه لدكاكين المعمرين بابركان.
كان مورلو يوجب ذعائر على الاهالي، يحددها ويحدد قيمتها، كلما داست مواشيهم او دوابهم ارضه، او اكلت من زرعه. كان يحبس قطعان الماشية والدواب في ضيعته، يستغلها حسب نوعية وضيفتها، ولا تحرر إلا بعد دفع الذعيرة التي يقررها ويختارها. كانت الذعيرة تعجيزية لتنتهي الى تحديد ايام عمل يشتغلونها بالمجان قبل استرجاع مواشيهم ودوابهم. حجز مورلو يوما حمار احد ابناء دواره لانه دخل الى ارضه، فجاء يطلبه، فامره ان يدفع غرامة مقابل ذلك، فشكاه فقره وحاجته، وكان الوقت صباحا، فحكم عليه بالعمل طيلة ذلك اليوم في تنقية الارض من الحجارة، ونقلها على حماره إلى وادي بورولو مقابل استرجاعه.
توسعت ضيعة مورلو وضمت اراضي شاسعة جديدة اضيفت الى سابقاتها. ركز مورلو في البداية على غرس اشجار اللوز والتين والزيتون والرمان، ثم تلاها غرس الكروم والحوامض على اختلاف انواعها عبر مراحل. كانت اشجار البرتقال تسقى بماء العين ايام جريانها، وعندما تجف يتم نقل الماء على الدواب من بئر جراوة بواسطة العمال ليلا ونهارا خاصة في فصل الصيف.
حفر مورلو بئرا خاصة بغرب ضيعته فيما بعد، فاصبح يستعين بها في سقي مغروساته، بعدما زودها بمضخة افادته كثيرا. شرع مورلو في غرس حقول الكروم بالتدريج، مع منتصف ثلاثينيات القرن العشرين، وغرس ايضا مساحة مهمة من اشجار اللوز الى الشرق من ضيعته، يمين الطريق المؤدية الى السعيدية.
اعتمد مورلو في بناء مرافق كالاصطبلات للدواب والابقار، والخنازير والمواشي، ومستودعات ومواقف لآليات العمل على بنائين اسبان وبرتغاليين، وخصص اجور يومية للكبار ( حوالي 1935 كان اجر الكبار 6 فرنكات) واخرى للصغار (اجر الصغار 3 فرنكات)، يصفي حسابها مع نهاية كل سنة، وغالبا ما كان الحساب ينتهي لصالحه، حيث يبقى العامل مدينا له.
كانت معاملة مورلو للعمال تتسم بالصرامة والقساوة، ويزرع الخوف في نفوسهم، وكان ايضا يضرب العامل اذا لاحظ عدم الاتقان لعمله، وكان كثير الزمجرة والصراخ في وجه العمال، وكثير التوعد بالعقاب وخصم اجر العمل، وفرض الغرامات والطرد.
بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، استدعي مورلو للعمل في الجيش سنة 1939م، باعتباره ضابطا شارك في الحرب العالمية الاولى، انتقل الى فرنسا، وتوقف العمل بضيعته، خلال مدد متقطعة.
استطاع ان يفلت من المشاركة في بعض المعارك نظرا لظروف صحية، حكت ابنته عن هذه الظروف الصحية فقالت ان والدها كان يتحايل على القيادة العسكرية عندما تسدعيه للالتحاق بالجبهة، اذ كان يشرب مواد كيماوية تؤثر على صحته ولون وجهه، فيعود الى عين الرڭادة، لانه كان يكره الحرب، منذ ان ذاق مرارتها في الحرب العالمية الاولى.
قل العمل في هذه الفترة واوقف مورلو جل اعماله بمعداته الفلاحية نظرا لانعدام البنزين وقطع الغيار، وعاد لاستعمال الدواب والعجول في حرث الارض وسقي الماء، ونقل المحاصيل الزراعية وتخزينها، وهي قليلة، وطرد جميع العمال حتى ان بعضهم تعاطوا للترابندو او التهريب.
كان مورلو معروفا بعدائه المتطرف للحركة الوطنية، فقد كان يراقب المجاهد الفقيه السيد عمرو بن الحسين الوكوتي حينما سلم له دكان ليشتغل بالتجارة، وكان هذا الدكان في ملك مورلو وقريبا من منزله وضيعته، فتسهل عليه مراقبته.
تجاوب المواطنون مع بعض الاحداث التي كانت تقع في العالم العربي والاسلامي، واستجابوا للدعوات الموجهة من اجل الاضراب، او مقاطعة بعض البضائع الفرنسية لتحسيس المعمر بان الجيل الجديد اصبح يدرك جيدا دوره في الدفاع عن الوطن.
تمت الدعوة الى اضراب شامل في ابركان وضواحيها، وصوم يوم واحد احتجاجا على استمرار هذه الحماية. يتذكر الناس جيدا عي عين الرڭادة كيف احيوا هذه الذكرى الاليمة، وكيف كانت نسبة الصيام مرتفعة، واتحاد الناس فيما بينهم قويا، وما تلا ذلك من مقاطعة البضائع الفرنسية. لقد ثار مورلو واغتاظ حين عثر على بعض المنشورات الداعية الاضراب والصيام، فأخذ يزمنجر كالرعد، وكان يردد امام بعض عماله: " شكون الصَّالو اللي إدير هذا.. غادي نَدِّي كُلْشِّي للحبس ". عبارة كان مورلو يرددها دائما استصغارا للمواطنين وتنقيصا من كرامتهم، وتعني بالفصحى : " من القذر الذي فعل هذا سأسوق الكل الى السجن ".
كان المعمر مورلو ضابطا في الجيش الفرنسي، وكان يكره الوطنيين ويمقتهم، وكانت ضيعته بمثابة ثكنة عسكرية لمراقبة المنطقة. منذ بداية الخمسينات، اخذت الادارة الفرنسية تقوي من سلطته ونفوذه، فزودته بكتائب عسكرية، اقامت في ضيعته وتضاعفت ابتداء من سنة 1953م، حيث امدته بجيش مسلح باحدث الاسلحة، وبالدبابات والسيارات المصفحة.
كانت الحراسة تقام بكيفية منظمة ودقيقة على الجهات الاربع لضيعته، حيث احيطت بخنادق للمراقبة، يتناوب الحراس عليها ليلا ونهارا، مع موجود حارسين دائمين على بابي الضيعة.
كانت الحراسة دائمة فوق سطح خزان الماء، الموجود الى غرب الضيعة، حيث يسمح علوه بمراقبة كل جهات الضيعة، وكذا مايجري بعين الرڭادة. كان الناس يخشون بطش مورلو وجبروته، يتحاشون رؤيته او ملاقاته، لا يتجرأ احد على الاقتراب بضيعته، او دخول ارضه. كانت له سلطة معاقبة الجميع، دون الرجوع الى السلطة الادارية بابركان، يحبس من شاء في ضيعته، يكتب حكمه على ورقة، ويبعث بالمواطن الى ابركان، فينفذ الحكم فيه دون محاكمة، يجمع مواشي الاهالي ودوابهم، ويحبسها في ضيعته، ولا يمكن اخذها الا بعد دفع الغرامة التي يحددها حسب رغبته، يراقب محمولات الاهالي، اذا شك فيها وهي مخترقة عين الرڭادة .
حاول فدائيو عين الرڭادة الانتقام من مورلو ومن معاونيه، الا انهم لم يتمكنوا، واتجهوا إلى الانتقام من بعض ممتلكاته، وهكذا تم إحراق اكوام التبن التي كان موضوعة إلى الشرق من مسكنه. أدى سكان عين الرڭادة ثمن هذا الاحراق غاليا، إذ بمجرد وقوعه حرك مورلو عساكر ضيعته، واتصل بالادارة الفرنسية بابركان التي نفرت لجمع الناس، ومداهمة مساكنهم، فوضعت حواجز على الطرقات، واقتحمت المنازل بالليل والنهار، وجمعت جل رجال المنطقة، حتى الشيوخ والعجائز، فساقت الجميع الى سجن ابركان وعذبوا عذابا همجيا. لم تتهيأ الضروف لقتل مورلو لانه لم يوفر الفرصة لاي احد الاختلاء به.
كان الجيش الفرنسي المرابط بضيعة مورلو، يخرج بامر منه الى العين وسواقيها ايام جريانها، ويمنع النساء من غسل اغراضهن، بدعوى تلويث المياه التي تذهب لسقي حقول مورلو.
كان مورلو يخرج بنفسه صحبة عسكره الى النسوة اللواتي يغسلن ثيابهن ومتاعهن بسواقي عين الرڭادة، فيجمعها، ويلقيها ارضا، ويرفسها برجليه، ثم يرميها وسط الاتربة والاوساخ الموجودة على حافات السواقي، وكانت النسوة يرتعدن كلما ابصرنه قادما الى العين، او سمعن هدير صوته.
كان مورلو يسجن من شاء، ويطلق سراح من شاء، وكان صاحب سلطة قوية، حتى على المسؤولين بمدينة ابركان، وكان يرصل مباشرة بالسلطات الفرنسية العليا بوجدة او الرباط، وهو الذي كان يردد كلما اغضبه مسؤول فرنسي او قائد مغربي: " نمشي للرباط نڭلعو ابحال واحد الراس اديال زلميط " وتعني: " اذهب الى الرباط، وازيله من منصبه ، كما ازيل رأس عود الثقاب ".
كان مورلو في فصل الصيف يسكن داره بالسعيدية، ويزور ضيعته بالرڭادة ليلا بين الحين والاخر، تربص به الفدائيون مرات عديدة، على الطريق الرابطة بين الرڭادة والسعيدية الا انهم لم يظفروا به.
غيرت عمليات الفدائيين حياة المعمرين بعين الرڭادة ونواحيها، كما هو شأن كل معمري مدينة ابركان، وسهل تريفة خصوصا بعد نفي محمد الخامس رحمه الله.
لم يسلم مورلو بعين الرڭادة من هذا الهلع والذعر، رغم تحصين ضيعته بكتائب الجيش الفرنسي المدجج بالاسلحة، والآليات الحربية، فقد كان في هذه الفترة يفر للمبيت بالسعيدية، او عند صهره "جانفيل" بمدينة ابركان، وزاد من تحصين مسكنه بعين الرڭادة، حيث اضاف ابوابا ونوافذ حديدية لكل الابواب والنوافذ الخشبية والزجاجية الاصلية، كما بنى بيتا فوق سطح منزله، وبالضبط فوق غرفة نومه، وصلهما بسلم خشبي ــــ هذا السلم الخشبي بقي بمسكن مورلو حتى ازاحه مدير "سوجيطا" حوالي 1974 عندما سكن بالضيعة ـــــ ضخم، بعدما احدث ثقبا في السطح، كي يتسلقه اذا ما دوهم المسكن من طرف الفدائيين.
وضعت للبيت العلوي نافذتان، جهة الشرق وجهة الشمال، وبابا جهة الغرب، جميعها من الحديد، فاصبح بامكانه ان يراقب جميع جهات مسكنه من اعلى السطح.
كان الاحتفال بالاستقلال اواخر 1955م عظيما ورائعا بعين الرڭادة، تجانس مع النيات المخلصة للوطنيين والناس اجمعين، ومع آمالهم في الانعتاق من العبودية والتعذيب، والامل في غد افضل، يحكم فيه المغربي ارضه، ويحن على اخيه، ويدافع عن حقه.
احس مورلو بخيبة الامل ويبدأ في التحرك في ضيعته امام عماله المغاربة ذهابا وايابا، يتحدث بمفرده، يضرب بين الحين والاخر الارض بقدمه وهو يردد: " أنبيع كلشي أُنمشي ... سي فيني...سي فيني" وتعني: " ابيع كل شيء واعود الى فرنسا.. انتهى كل شيء...انتهى كل شيء".
مع ستينيات القرن العشرين غير مورلو من سلوكاته العدائية، واصبح يتعامل مع العمال بكثير من الليونة، فقد كان يقدم بعض المساعدات للعمال زمن الشدة، ويتكلف بمداواة بعضهم، كما اصبح يمتع عماله بعطلة صيفية تمتد لخمسة عشر يوما، يقضونها بشاطئ السعيدية على نفقته.
كان يقيم كل سنة حفلا للعمال داخل الضيعة يسميه حفل "المشوي" يجالس فيه العمال، يحدثهم في التاريخ والسياسة، والحرب التي خاصها ضد الالمان، يجمع العمال صباح الفاتح من يناير ويقدم لهم الحلوى والهدايا، خصص لمدة طويلة قطعة ارض للعمال، يحرثها ويحصدها، ويوزع عليهم محصولها.
اصبح يشفق كثيرا على عماله المسنين، ويوصي بالعناية بهم وعدم ارهاقهم بالعمل.
تأسست قرية عين الرڭادة حوالي اوخر سيتينيات القرن العشرين. حددت السلطات القطع الارضية التي ستقام عليها القرية، فاختارت قطعة من اراضي المعمر مورلو، مساحتها ستة هكتارات، كانت مغروسة باشجار اللوز الى بداية ستينيات القرن العشرين. هذه القطعة الارضية تدخل ضمن الاراضي التي احتفظت بها " كلودين " ابنة المعمر مورلو، عندما باعت اجزاء مهمة من اراضي والدها، فقد تكلفت بذلك خصوصا عندما اشتد به المرض، ابتداء من سنة 1967م، حيث كان كثير التردد على فرنسا للتداوي، وسيموت بها حوالي سنة 1969م.
عن كتاب " عين الرڭادة القصبة والتأسيس " لمؤلفه الاستاذ عبد الله الزغلي